من الصعب التفكير في بلد فقد الكثير من التأثير في وقت قصير مثل إيران، حتى وقت قريب، يمكن أن نقول أنها من الممكن أن تكون “أهم فاعل إقليمي في الشرق الأوسط”، أكثر نفوذاً من مصر أو إسرائيل أو المملكة العربية السعودية أو تركيا، ومع ذلك، في غضون عدة أشهر، تراجع النفوذ الإيراني بشكل كبير، و إيران الان أضعف وأكثر ضعفا مما كانت عليه منذ عقود، على الأرجح منذ حربها مع العراق أو حتى منذ ثورة عام 1979.
أعاد هذا الضعف لدولة مثل إيران فتح النقاش حول كيفية تعامل الولايات المتحدة وشركائها مع التحديات التي تشكلها إيران، حيث يرى البعض فرصة للتخلص من جميع أبعاد التهديد الذي تمثله- القدرات النووية، وأنشطتها الإقليمية الخبيثة، وبضربة واحدة!
وسيضيف عليه آخرون، “أن التعجيل بنهاية الجمهورية الإسلامية بالكامل أمر ضروري”
ومع ذلك، لابد من توخي الحذر بشأن ما يمكن توقعه من إستخدام القوة العسكرية أو العقوبات الاقتصادية، وكذلك ما نتوقعه من جهود مُصممة للإطاحة بالنظام السياسي الحالي في إيران، و إستبداله بشيء أفضل.
القضية ليست مجرد أهداف بل أولويات، لأن عملية المقايضة هنا، لا يمكن تجنبها، يجب تحديد الأهم منها، أولاً.
ولكن عندما يتعلق الأمر بالوسائل المُستخدمة لتحقيق الاهداف، يكون الاختيار أقل بين (الدبلوماسية) و (القوة)، مما هو عليه في كيفية ترابط وتسلسل الإختيارات.
النهج الأكثر وعداً، هو النهج الذي من شأنه أن يتابع الهدف الطموح المُتمثل في إعادة تشكيل سياسة الأمن القومي الإيراني من خلال الدبلوماسية – لكن الدبلوماسية التي يتم السعي لتنفيذها على خلفية (القدرة والاستعداد لاستخدام القوة العسكرية)، إذا رفضت إيران معالجة المخاوف الأمريكية و الغربية بشكل مناسب.
الوضع هنا كبير جدا، ما يتم إختياره بالنسبة لإيران، سيكون له آثار كبيرة ليس فقط للشرق الأوسط ولكن لبقية العالم، بما في ذلك أسواق الطاقة، وبالنسبة للولايات المتحدة، سيساعد ذلك في تحديد المدى الذي يمكن أن يفي به في النهاية على محور تم تجديده منذ فترة طويلة وتحويل الموارد العسكرية بعيدًا عن الشرق الأوسط نحو أولويات أخرى، قبل كل شيء ردع العدوان الصيني في المحيط الهادئ الهندي.
تدفق نفوذ إيران الإقليمي إلى حد كبير من تمويلها وتسليحها للجماعات الإرهابية والميليشيات، في غزة، العراق، لبنان، سوريا و اليمن وما وراءها، حيث كان هؤلاء الوكلاء كلهم وقفوا ضد إسرائيل (وأي تفاهم بين إسرائيل والفلسطينيين)، وهددوا المصالح الأمريكية والغربية.
وبشكل أوسع نطاقاً، كانت هذه هي الوسيلة التي سعت بها إيران إلى تشكيل الشرق الأوسط على صورتها، و تضاعفت هذه الاستراتيجية غير المباشرة للتأثير الإيراني في جميع أنحاء المنطقة مع السماح لإيران، بتجنب أو على الأقل تقليل الانتقام المباشر ضدها.
في العراق، كانت إيران المُستفيد الرئيسي في حرب الولايات المتحدة لعام 2003، وذلك من خلال إزالة (صدام حسين) من السلطة، وأستخلصت كذلك الحكم في العراق، الذي يقوده السُنة، والذي كان على إستعداد وقادر على تحقيق التوازن بين إيران و الشيعة.
تمكنت إيران من الاستفادة من فوضى الغزو والتقارب مع الأغلبية الشيعية في العراق لتحل محل الولايات المتحدة كقوة خارجية بأكبر تأثير داخل البلاد.
تمتعت إيران منذ فترة طويلة بموطئ قدم قوي في لبنان، بسبب إستقطاب الشيعة هناك، وإن لم يكونوا هم الأغلبية، حيث كان حزب الله في لبنان، المُتلقي الرئيسي للمساعدة الإيرانية من كل نوع، وبالتالي مُجهز بشكل أفضل من منافسيه المحليين، وكان بمثابة إستقلال شبه تام داخل لبنان- كان يمثل دولة داخل الدولة.
وبفضل أصوله العسكرية، وعلى رأسها عشرات الآلاف من الصواريخ، وقربه من الحدود الجنوبية للبنان مع إسرائيل، نجح حزب الله في ردع أي عمل إسرائيلي ضد إيران، حيث كان على إسرائيل أن تأخذ في الاعتبار قدرة الجماعة الإرهابية على الرد على المواطنين الإسرائيليين وأراضيها.
ثم كان هناك حركة حماس، لعدة عقود، على الرغم من حقيقة أن المجموعة سُنية، فإن إيران دعمتها بالنقد والتدريب والأسلحة، حيث تهدف إيران من وراء ذلك إلى زيادة إحتمالات (سيطرة الرفض للتقارب مع إسرائيل)، بدلاً من (التكيف) على النهج الفلسطيني تجاه إسرائيل.
في عام 2006، فازت حركة حماس على السلطة الفلسطينية في الانتخابات في قطاع غزة، مما أعطى الحركة وإيران مُنطلق لكل من العمليات العسكرية ضد إسرائيل و لتحدي السلطة الفلسطينية.
في سوريا، دخلت إيران، إلى جانب روسيا، لدعم نظام بشار الأسد عندما كان يتأرجح على حافة الانهيار في أعقاب الربيع العربي (في عام 2011)، و نجا النظام لأكثر من عقد من الزمان، مما أبقى الطريق الرئيسي لإرسال الأسلحة إلى حزب الله سليماً، وأبقى إسرائيل مُحاطة بقوات مُعادية، و إيران لديها تأثير كبير عليها – أو هلال شيعي يمتد من إيران إلى سوريا ولبنان وغزة.
كما أستثمرت إيران في تطوير قوة الحوثيين، وهي جماعة شيعية مقرها اليمن كانت (الفائزة) في الحرب الأهلية في اليمن (لم تقاتل الحكومة فحسب بل و قوات المملكة العربية السعودية و الإمارات العربية المتحدة).
منذ بداية الحرب في غزة، أدت هجمات الحوثيين الصاروخية على السفن في البحر الأحمر إلى تعطيل التجارة العالمية، مما أجبر سفن الشحن وناقلات النفط على اتخاذ الطريق الأطول والأكثر تكلفة حول إفريقيا، حتى و أن الحوثيين هاجموا إسرائيل بشكل مباشر و ضربوا سفن البحرية الأمريكية.
لقد جاءت بداية نهاية التفوق الإقليمي لإيران، ومن عجيب المفارقات، بما بدا وكأنه إنتصار للنظام الإيراني (هجمات حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023)، لا يزال مدى تورط إيران في الهجمات غير واضح، لكن المذبحة، التي أدت إلى مقتل حوالي 1,200 إسرائيلي وأسر حوالي 200 رهينة، لم تكن لتحدث لولا تورط إيران الطويل الأمد مع حماس ودعمها لها.
لقد كان الهجوم الذي أحرج إسرائيل (غير المُستعدة)، وسمح لحماس لفترة من الوقت بالزعم بأنها الكيان الفلسطيني الوحيد الراغب والقادر على مواجهة إسرائيل، نعمة ليس فقط لحماس بل وكذلك لإيران، الداعم الرئيسي لها.
بعد مرور أكثر من عام بقليل، أنتهى هذا الانتصار التكتيكي لإيران بهزيمة إستراتيجية، حيث أدت العمليات العسكرية الإسرائيلية المُستمرة إلى إضعاف حركة حماس إلى الحد الذي لم تعد معه ذات قوة قتالية فعالة قادرة على شن أي شيء.
وقد أعقبت إسرائيل هذا بمجموعة متنوعة من الهجمات على حزب الله، والتي قضت على قياداته ومخابئ أسلحته، مما جعله أضعف بكثير وأجبره على التخلي عن إصراره الطويل الأمد على أن يقترن أي وقف لإطلاق النار مع إسرائيل بوقف إطلاق النار في غزة.
لقد سهلت هذه التطورات الإطاحة بنظام الأسد، حيث لم يعد حزب الله في وضع يسمح له بدعم النظام، الذي اعتمد بشكل كبير عليه للاحتفاظ بالسلطة، و مع تركيز روسيا لمواردها و إهتمامها على أوكرانيا، أستطاعت القوات المناهضة للأسد، بقيادة الإسلاميين وبدعم من تركيا، إلحاق الهزيمة بسرعة بالسلالة التي حكمت سوريا بلا رحمة لأكثر من نصف قرن.
ومع حالة الفوضى في سوريا، اغتنمت إسرائيل الفرصة كذلك للقضاء على الكثير من المُعدات العسكرية للأسد.
إيران نفسها أصبحت الآن أكثر عرضة للخطر من أي وقت مضى، حدث أنه لمرتين في عام 2024 (أولاً في شهر نيسان/ أبريل، ثم مرة أخرى في تشرين أول/أكتوبر)، حيث هاجمت إيران، إسرائيل مباشرة، بمزيج من الطائرات بدون طيار والصواريخ ردًا على الضربات الإسرائيلية على المواقع الإيرانية في سوريا، و إغتيالها لزعيم حركة حماس (اسماعيل هنية) في العاصمة الايرانية طهران.
تسببت هجمات إيران في أضرار قليلة في داخل إسرائيل، ولكن إسرائيل ردت مرتين، ودمرت الدفاعات الجوية ومخزونات الذخيرة وعناصر حاسمة من القاعدة الصناعية الدفاعية الإيرانية، كل ذلك مع إظهار القدرة على العمل عسكريًا فوق إيران بحرية شبه كاملة.
لكن على الرغم من هذه النكسات (التي تعرضت لها إيران)، فإن ثلاثة مجالات من السلوك الإيراني تقدم سببًا مُستمرًا للقلق، حيث إن إيران تواجه الآن ثلاثة مخاوف رئيسية:
الأول، دعمها للوكلاء، والذي حظي بأكبر قدر من الإهتمام على مدى الأشهر الخمسة عشر الماضية.
الثاني، هو برنامجها النووي، فقد زادت إيران من كمية اليورانيوم المُخصب الذي تمتلكه ومستوى التخصيب، وربما تكون على بعد أسابيع فقط من أن تتمكن من إنتاج ما يكفي من اليورانيوم الصالح للإستخدام في الأسلحة، للحصول على ما يصل إلى عشرة أسلحة نووية، وسوف يتطلب الأمر المزيد من الوقت (ما يقدر بستة أشهر إلى عام) لإنتاج أسلحة فعلية عاملة، ولو أن ذلك قد يتسارع بمساعدة من شركاء من ذوي الخبرة مثل الصين، كوريا الشمالية، باكستان، وروسيا.
والقلق الثالث، هو الوضع الداخلي في إيران، حيث أن زعماء إيران يحكموا شعبهم بالإكراه، على الرغم من إجراء الإنتخابات، ولكن يتم ( تدقيق و فصل) المُرشحين المُحتملين ويتم إستبعاد العديد منهم، والسلطة النهائية في أيدي رجال الدين غير المُنتخبين، والحقوق السياسية مُقيدة بشدة لجميع الإيرانيين، والإنترنت تديره الحكومة، ويخضع معارضو النظام للاعتقال التعسفي، والنساء يخضعن لضوابط خاصة.
إن السياسة الأميركية المثالية لابد وأن تسعى إلى معالجة المجالات الثلاثة المُثيرة للقلق، بهدف الحد من تقديم الدعم العسكري للوكلاء؛ ووضع سقف للبرنامج النووي الإيراني، وهو السقف الذي يمكن التحقق منه والذي من شأنه أن يوفر تحذيراً كافياً إذا حاولت إيران التحرك نحو الانطلاق نحو السلاح النووي، وخلق مساحة سياسية وشخصية أكبر للمواطنين الإيرانيين.
بيد أن السعي إلى تحقيق النجاح في المجالات الثلاثة ــ السعي إلى إنهاء البرنامج النووي الحكومي، والدعم العسكري للوكلاء، و إنهاء قمع الشعب الإيراني ــ من شأنه أن يفشل على الأرجح، حيث يتعين على السياسة الخارجية الأمريكية أن تسعى إلى تحقيق الممكن فضلاً عن المرغوب فيه، وسوف يكون النهج الذي يتسم بمثل هذا الطموح غير واقعي، ويرجع هذا جزئياً إلى أن ما قد يكون ضرورياً على الأرجح لتحقيق أحد أو اثنين من الأهداف سوف يكون غير متوافق مع تحقيق الهدف الثالث.
إن البرنامج النووي لابد وأن يكون على رأس قائمة الأولويات بالنسبة لصناع السياسات الأميركيين، و ذلك أن إيران التي تمتلك الأسلحة النووية ومجموعة من أنظمة الإطلاق سوف تكون في وضع يسمح لها بفرض تهديد وجودي على العديد من جيرانها وشركائها الإقليميين المقربين من الولايات المتحدة، وخاصة إسرائيل.
وسوف تكون إيران قادرة كذلك على التصرف بقدر أعظم من العدوانية ــ بما في ذلك من خلال وكلائها ــ على اعتقاد منها بأن قوتها النووية سوف تجعل الآخرين يترددون قبل مهاجمتها بشكل مباشر.
وهناك سبب وجيه للاعتقاد بأن إيران التي تمتلك الأسلحة النووية سوف تدفع العديد من الدول الإقليمية الأخرى، بما في ذلك المملكة العربية السعودية وتركيا، إلى تطوير أو الحصول على أسلحة نووية خاصة بها، ومن شأن مثل هذا التطور أن يزيد من إحتمالات الصراع في المنطقة (ولو فقط لوقف مثل هذه الجهود) ويزيد من إحتمالات إستخدام الأسلحة النووية بالفعل، وسوف يكون من الأصعب كثيراً خلق الإستقرار و إستدامته، إذا تضاعف عدد (صناع القرار) وكانت المخزونات النووية يتم إستخدامها أولا!
وقد زعم بعض صناع السياسات والمُحللين بدلاً من ذلك إعطاء الأولوية لتغيير النظام، و إن المنطق وراء هذه الحجة هو أن إيران الديمقراطية الموالية للغرب سوف تتخلى عن الأسلحة النووية، وتتراجع عن دعم الوكلاء!
ولكن، في حين أن هذا المنطق صحيح، إلا أنه لا يوجد سبب وجيه للإعتقاد بأن الولايات المتحدة قد تسهل تغيير النظام بأي درجة من الضمانات، وبالتأكيد ليس في إطار جدول زمني واضح، بغض النظر عن مدى ضعف الجمهورية الإسلامية في الوقت الحالي.
تأتي الأنظمة الاستبدادية في أشكال وأحجام عديدة، وليست كلها هشة على قدم المساواة، فالأنظمة التي كانت هشة ــ سوريا تحت حكم الأسد، إيران نفسها تحت حكم الشاه، ليبيا تحت حكم معمر القذافي، والعراق تحت حكم صدام ــ تميل إلى أن يكون لديها بعض السمات المشتركة: الحُكم من قِبَل القيادة الفردية بدلاً من الزعامة الجماعية، والافتقار إلى المؤسسات، والاعتماد على الإكراه أكثر من الولاء الواسع النطاق، وغياب الآليات المقبولة على نطاق واسع لتداول السلطة، وقوات الأمن التي تركز أكثر على درء الانقلابات بدلاً من خوض الحروب التقليدية.
ولكن إيران، في الوقت الحاضر مختلفة، ومن المؤكد أن القيادة هناك غير شعبية حالياً، حيث تشير استطلاعات الرأي إلى أن غالبية الإيرانيين يعارضون النظام، و هناك تقارير عن إنتقادات عامة ملحوظة لكل ما تم القيام به وإنفاقه نيابة عن نظام بشار الأسد، بينما كان الإيرانيون العاديون يعانون، إيران دولة غنية بالطاقة تعاني من نقص في الطاقة!
و لكن هذا لا يعني أن الحكومة والنظام السياسي الذي تمثله يفتقران إلى الدعم المحلي الكبير، والأمر الأكثر أهمية هو أن النظام لديه قواعد حقيقية من الدعم الداخلي على إستعداد لإستخدام العنف لحمايته.
كما تمتلك إيران مجموعة معقدة من المؤسسات المتداخلة، بما في ذلك مجلس إستشاري، مجلس خبراء، مجلس صيانة الدستور، مجلس تشخيص مصلحة النظام، والقضاء، وما إلى ذلك، ومثال لذلك، كانت عملية إنتخاب رئيس جديد جرت بسلاسة، بعد وفاة إبراهيم رئيسي.
من حيث المبدأ، يمكن لسياسة تغيير النظام أن تستخدم العقوبات، الدعم الاقتصادي و العسكري (السري) لمعارضي النظام، عدم الاعتراف بالنظام والاعتراف ببديل سياسي، واستخدام وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي للتأثير على بيئة المعلومات، والتدخل المسلح.
ولكن التأريخ يظهر أنه لا يوجد ما يضمن أن تحقق مثل هذه الأدوات التأثير المطلوب، وخاصة إذا تم تعريف النجاح من خلال إستبدال السلطات القائمة بشيء أفضل (حتى لو كان الأفضل يعني فقط التوافق مع المصالح الأميركية) في غضون فترة زمنية محددة.
في الوقت نفسه، فإن وقف البرنامج النووي الإيراني ودعمه للوكلاء المزعزعين للإستقرار سيظلان من الأولويات العاجلة، وكما كانت الحال مع استراتيجية الاحتواء التي تبنتها الولايات المتحدة أثناء الحرب الباردة ــ والتي على الرغم من تركيزها على تشكيل السياسة الخارجية السوفييتية، إلا أنها ساهمت في انهيار النظام السوفييتي بعد أربعة عقود من الزمان ــ فإن الأولوية لابد وأن تكون للحد من قدرات إيران وتشكيل سلوكها الخارجي، وقد يكون لمثل هذه الجهود كذلك تأثير على التنمية الداخلية، ولكن هذا ينبغي أن يكون في مرتبة أدنى من الأولويات.
غالباً ما تقدم المناقشات حول كيفية تحقيق هذه الأهداف الدبلوماسية أو إستخدام القوة العسكرية وكأنها بدائل حصرية، ومع ذلك فمن الأفضل أن نفكر فيهما باعتبارهما مُتكاملين، وأن نستخدمهما بالتنسيق.
إن الدبلوماسية المدعومة باستخدام القوة بشكل موثوق تتمتع بفرصة أكبر كثيراً للنجاح من الدبلوماسية التي لا تنطوي على مثل هذا التهديد، في حين يتمتع إستخدام القوة العسكرية بفرصة أفضل كثيراً للحصول على الدعم في الداخل والخارج إذا ما تم تقديمها بعد رفض الدبلوماسية التي يُعتَقَد أنها معقولة.
قال جورج كينان، مؤلف مبدأ الاحتواء، ذات يوم بسخرية، إنكم لا تدركون مدى مساهمة القوة المُسلحة الهادئة في تعزيز اللباقة العامة والود في الدبلوماسية!
إن الدبلوماسية لابد وأن تستكشف إمكانية التوصل إلى صفقة كبرى، إذ يتعين على إيران أن توافق على سقف مفتوح وقابل للتحقق لبرنامجها النووي، يحد من كمية المواد المُخصبة التي يمكنها إمتلاكها ومستوى التخصيب، ويضمن اكتشاف أي نشاط أو قدرة نووية محظورة قبل وقت طويل من تمكنها من إنتاج سلاح نووي.
كما من شأن الاتفاق أن يستبعد الدعم العسكري الإيراني للجهات الفاعلة غير الحكومية مثل حزب الله وحماس والحوثيين، ومن شأنه أن يفرض قيوداً على برنامج الصواريخ الباليستية الإيراني، وبالتالي فإن مثل هذا الترتيب من شأنه أن يختلف بشكل كبير عن خطة العمل الشاملة المشتركة لعام 2015 (الإتفاق النووي)، التي وضعت حدوداً زمنية للقيود النووية وتجاهلت سلوك إيران الإقليمي.
بموجب مثل هذا الاتفاق، سوف تكون إيران قادرة على الحفاظ على برنامج للطاقة النووية، وإن كان تحت قيود شديدة ومراقبة تدخلية، ويمكنها أن تقدم الدعم السياسي والاقتصادي (ولكن ليس العسكري) للجهات الفاعلة الإقليمية، وسوف يتم تخفيف العقوبات الاقتصادية بشكل كبير (وحتى تلك العقوبات التي بقيت يمكن تخفيفها أو إزالتها إذا منحت الحكومة الإيرانية قدراً أعظم من الحرية للإيرانيين).
ولكن لماذا قد تقبل إيران مثل هذا الاتفاق؟
أولاً، تواجه الحكومة الإيرانية ضغوطاً هائلة، فقد شهدت تآكلاً خطيراً في موقعها الاستراتيجي، وهي معرضة بشدة للهجوم العسكري، كما هبطت عملتها المحلية، في حين لا يوجد في الداخل ما يكفي من الطاقة لتدفئة الشقق والمصانع في إيران، وكذلك أرتفعت مستويات الاستياء العام المُرتفعة بالفعل في أعقاب الأحداث في سوريا.
وقد ساهمت العقوبات التي تقودها الولايات المتحدة في الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها إيران، ومن المفترض أن يكون الوعد بتخفيف العقوبات بدرجة ما جذاباً لأنه من شأنه أن يخفف الضغوط الداخلية على النظام.
ومن منظور إيران، فإن الهدف الأكثر أهمية هو الحفاظ على النظام الذي أنشأته ثورة 1979، و إن هذا الهدف كان سبباً في تحولات سياسية في الماضي، حيث في عام 1988، قبل آية الله الخميني نهاية الحرب الإيرانية العراقية دون تحقيق النصر، وهو القرار الذي قارنه بشرب السم، من أجل إنقاذ الجمهورية الإسلامية.
والوضع الحالي مشابه، فالولايات المتحدة سوف تشير إلى إستعدادها (لقبول) النظام القائم إذا قبل القيود البعيدة المدى على طموحاته النووية وأنشطته الإقليمية، وهناك دلائل متزايدة على أن النظام الإيراني قد يكون مُنفتحاً على مناقشة مثل هذه الصفقة، حيث كتب نائب الرئيس الجديد للشؤون الاستراتيجية (محمد جواد ظريف) في مجلة فورين أفيرز (حتى قبل أن تؤدي الأحداث في سوريا إلى تفاقم موقف إيران، أن الحكومة تأمل في إجراء مفاوضات متساوية فيما يتعلق بالاتفاق النووي – وربما أكثر.
أوضح الرئيس الإيراني الجديد أن أولويته تتمثل في إحياء ثروات البلاد الاقتصادية.
وقد زعم بعض المحللين أنه من الأفضل التخلي عن مثل هذا الجهد الدبلوماسي و إختيار القوة العسكرية عاجلاً وليس آجلاً، حيث سوف يستهدف الهجوم المنشآت المُرتبطة بالبرنامج النووي على أمل تدمير جزء كبير من البرنامج أو كله وتحفيز التغيير السياسي الجذري في إيران!
صحيح أن جزءاً كبيراً من البرنامج النووي القائم، إن لم يكن كله، قد يدمر أو على الأقل يُعطل، ولكن حتى هذا لن يكون حلاً دائماً، لأن إيران أكتسبت خبرة نووية لا يمكن تدميرها بالقوة، وقد تؤدي العملية العسكرية الناجحة إلى إرجاع برنامج إيران إلى الوراء عدة سنوات، ولكنها قد تختار إعادة بناء برنامجها في مواقع أكثر تحصيناً وبعيداً عن مدى قدرة الذخائر الأميركية والإسرائيلية على الوصول إليه.
كما قد تستخدم إيران مثل هذا الهجوم كمبرر إضافي للحاجة إلى الأسلحة النووية، وحتى مع إضعاف وكلائها ودفاعاتها، قد تنتقم إيران من إسرائيل باستخدام صواريخها الباليستية الباقية، وضد منشآت النفط والغاز في جيرانها، والعديد منها شركاء إقليميون مهمون للولايات المتحدة، وضد أهداف أميركية عبر الإرهاب.
وسوف ترتفع أسعار النفط والغاز، على ضوء ذلك كله، مما يزيد من الضغوط التضخمية على مستوى العالم ويؤدي إلى كساد النمو الاقتصادي، والآثار الداخلية لمثل هذا السيناريو في إيران غير معروفة، وقد تؤدي بسهولة إلى إشعال فتيل استجابة وطنية حاشدة أو تشجيع الاحتجاجات المناهضة للنظام، أما على الصعيد الدولي، قد يكون مثل هذا الهجوم الوقائي مُزعزعاً للاستقرار، حيث قد يستشهد به آخرون كسابقة لاتخاذ إجراءات مماثلة ضد المنافسين.
ولقد دعا آخرون إلى سياسة الضغط الأقصى التي من شأنها أن تجعل إستخدام العقوبات الاقتصادية أكثر فعالية، ولكن لا يوجد شيء في تأريخ العقوبات يشير إلى أنه من المتوقع أن تحقق هذه العقوبات غايات طموحة، وبالتأكيد ليس بحلول تاريخ معين.
ومرة أخرى، يمكن وينبغي أن تكون العقوبات جزءاً من سياسة شاملة، مع إدخال بعض التدابير الإضافية لزيادة الضغوط على النظام في حين قد يكون الوعد بإزالتها حافزاً إضافياً لتغيير السلوك (الإيراني)، بما في ذلك في مجال حقوق الإنسان والسياسة الداخلية.
إن النهج الصحيح بالنسبة للولايات المتحدة، هو أن تبدأ بالدبلوماسية مع الاستمرار في التهديد باستخدام القوة، ثم إستخدامها بالفعل، إذا تقدمت إيران بأنشطتها النووية إلى ما يتجاوز عتبة معينة أو حاولت إعادة إمداد وكلائها بأسلحة جديدة.
ويهدف هذا المزيج إلى معالجة الأولويات العليا للولايات المتحدة عندما يتعلق الأمر بسلوك إيران، وأولئك الأكثر عرضة للتأثير الخارجي، ومن المرجح أن يؤدي تقديم قدر من تخفيف العقوبات في مقابل ضبط النفس النووي والإقليمي إلى تعزيز آفاق النظام في الأمد القريب، ولكن هذا الهدف ينبغي أن يتراجع إلى مرتبة أدنى من الأولويات الأعلى.
لقد خلقت التطورات على مدى الأشهر الخمسة عشر الماضية فرصة غير متوقعة للسيطرة على تصرفات إيران، و إنها فرصة لا ينبغي إهدارها، ولا يوجد مفارقة هنا، حيث كان الرئيس دونالد ترامب آنذاك هو الذي أخرج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي لعام 2015، في عام 2018، و لكن التفاوض على اتفاق جديد ومحسن سيكون أشبه بما فعله دونالد ترامب عندما تفاوضت إدارته الأولى مع المكسيك وكندا لاستبدال اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية باتفاقية الولايات المتحدة والمكسيك وكندا.
كما أن الاتفاق الجديد مع إيران من شأنه أن يلغي الحاجة إلى استخدام القوة العسكرية على نطاق واسع، وهو الأمر الذي قاومه دونالد ترامب تقليديا.
هناك إلحاح هنا، فمن المرجح أن تحاول إيران قريبا تجميع نفسها، وإعادة تشكيل وكلائها في المنطقة، ومع تدمير رادعها التقليدي (حزب الله في لبنان)، قد تستنتج إيران كذلك أن السلاح النووي فقط هو القادر على حمايتها من إسرائيل والولايات المتحدة.
قد يدوم الماس إلى الأبد، لكن الفرص الاستراتيجية لا تدوم، وكما يعلم مؤلف كتاب فن عقد الصفقات (يقصد دونالد ترامب) جيدًا، يجب اغتنامها بسرعة.
(ترجمة بتصرف عن مقال لـ Richard Haass في مجلة الفورن ايفرز)






